فوضى الفتاوى عبر وسائل التواصل الاجتماعي
فتوى تقول: لا بأسَ بالنظر إلى الجميلات؛ من أجل التفكر في خلق الله.
وأخرى تقول:يجوز للمرأة أن تتولَّى الإمامة في الصلاة على الرجال.
وآخر الفتاوى طنيناً تقول: بجواز رضاع المرأة الموظفة لزميلها في العمل حتَّى لا يكون جلوسهما في العمل نفسه خلوة محرَّمة؛ بشرط توثيق ذلك الإرضاع رسمياً!
هذه نماذجُ لبعض الفتاوى والجرأة على الدين وشرع رب العالمين، ولا يزال واقعنا يتمخض عن فوضى في الفتاوى وبالذات في وسائل التواصل الإجتماعي وبخاصة في تويتر .
ولا ندري هل يُخفي المستقبل في جعبته المزيدَ من هذا العبث بمقام الفتوى؟!
وصدق الشاعر قديما حين قال:
والليالـي مـن الزمـان حبالــى مثقـلات يلـدن كـل عجيـب
فإذا كانت الليالي في الأزمنة الماضية تلد العجائب، فهي في زماننا أكثر وأسرع ولادة لكل عجيب وغريب وجديد.
ألا إنهـا الأيــام ســرن كلهــا عجائب حتى ليس فيها عجائب
فهذه الفتاوى العحيبة التي تتسارع وسائل التواصل الحديثة في نقلها، وتتسابق الفضائيات في عرضها، أضلَّتْ أقواما، وتشبث بها من في قلبه مرض، ومن هو مغرم بتتبُّع الزلات والرخص.
ومن اتخذ من رخص العلماء وزلاتهم دينا فقد جمع الشر والسوء من أطرافه وجنى على نفسه وأنزلها دار البوار والخسارة .
ولو أنّ إنسانًا أخذ بكل شواذّ الأقوال وغرائبها لربما خرج من الدّين، وهو لم يشعر.
وليس كلُّ خلاف جاء معتبرا
إلاّ خلاف له حظ من النّظرِ
وإني لأعجب من شأن هؤلاء فلو كان الأمر يخص أجسادهم لما تعدوا أمهر الأطباء قيد أنملة ؛ ولو كان الموضوع حول المباني لما جاوزوا رأي أحذق المهندسين ؛ ولو كانت المسألة في الاستثمار لبحثوا عن الخبير الحريص ؛ بل لو كانت القضية في ملبس يفنى ولا يبقى لسألوا أحسن الناس ذوقا! فيا لله كيف هان أمر الدين على الناس حتى صدق فيهم قول أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي : " لو اعتنى الواحد منا بدينه عنايته بشرك نعله لدخل الجنة " .
وقد قال الفاروق عمر -رضي الله عنه-: " يهدم الإسلام: زلّة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمّة مضلّون"
وقال الإمام علي – رضي الله عنه - :" حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله "
وهؤلاء الذين يفتون الناس بهذه الفتاوى هم الذين سمّاهم النبي -صلّى الله عليه وسلّم- الرؤوس الجهّال في قوله: (إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتّخذ النّاس رؤوسًا جهّالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلّوا) (متفق عليه).
قل للذي يدعى علمـا ومعرفة
علمت شيئا وغابت عنك أشـياء
فالعلم ذو كثرة في الصحف منتشر وأنت يا خل لم تستكمل الصحفا
وكأن هؤلاء لم يعلموا أن الإفتاء عظيم، وموقعها جسيم؛ إذ هي توقيع عن رب العالمين، ووقوف بين الله تعالى وخلقه،ويكفي استعظاما لشأنها أن المولى سبحانه قد قرَن التقول عليه وعلى شرعه بلا علم، بالفواحش والظلم والإشراك؛ كما قال تعالى:(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 33].
وأنكر سبحانه وشنع على من يرسلون ألسنتهم تحليلاً وتحريمًا بلا علم، وسمى ذلك افتراءً وكذبًا: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) [يونس: 59].
قال الربيع بن خثيم :" ليتق أحدُكم أن يقول أحل الله كذا وحرَّم كذا فيقول الله له كذبت لم أحل كذا ولم أحرم كذا"·
قال سبحانه: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) [النحل: 116].
وإذا كان الكلام في شرع الله بلا علم هو نوع من الكذب على الله تعالى أفلا يكفي زجرًا وإنذارًا قول الجبار تعالى: (وَيَوْمَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزُّمر: 60]؟!
وقد حذَّر نبينا -صلى الله عليه وسلم- من سؤال أهل الجهالة؛ بل دعا عليهم، فحين بلغه قصةُ الرجل الذي شُج رأسُه في سفر فاحتلم، فسأل الرجل أصحابَه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟! فقالوا: ما نجد لك رخصةً وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (قتَلوه قتَلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا). رواه أبو داود
فهؤلاء مأزورون غير مأجورين، بل صنيعهم هذا من أكبر الكبائر.
ويصدق عليهم قول الشاعر :
فدع عنك الكتابة لست منها
ولو سودت وجهك بالمداد
وحين نقلب صفحات تاريخنا، نرى صفحاتٍ وضاءةً من أخبار سلفنا مع الفتوى، نرى الديانة الحقة، والتورع الصادق، لقد استشعَروا عظمة الله، وعظُم مقام ربهم في قلوبهم، فتهيبوا الفتيا وهربوا منها، وما تصدروا لها؛ بل كان أحدهم يتمنى لو أن غيره كفَاه؛
قال ابن ليلى ( أحد التابعين):" أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما كان منهم مفتٍ إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا".
وهذا فقيه العراق أبو حنيفة يقول:"من تكلَّم في شيء من العلم وهو يظن أن الله -عزّ وجل- لا يسأله عنه: كيف أفتيتَ في دين الله؟!
فقد سهُلت عليه نفسه ودينه".
وقال الفقيه ربيعةَ بنِ أبي عبد الرحمن: "ظهر في الإسلام أمر عظيم، استُفتي من لا علم له،..ولبعض من يفتي هاهنا أحقُّ بالسجن من السراق".
هذا قول ربيعةَ والتابعون متوافرون، فكيف لو عاين زماننا هذا؟!
وقد تجرأ على الإفتاء من هبَّ ودبَّ دون علم ولا ورع ولا أدب؟!
ويُسأل إمام دار الهجرة -الإمام مالك- في مسألةٍ من رجلٍ غريب، فيأتيه الجواب: لا أدري، فيقول: يا أبا عبد الله، تقول: لا أدري؟! قال: نعم، وأبلِغْ من ورائك أني لا أدري.
ورحم الله العلامة النحرير المفسر اللغوي محمد بن الأمين الشنقيطي، الذي كان كثيرًا ما يتمثل قول الشاعر:
إِذَا مَا قَتَلْتَ الشَّيْءَ عِلْمًا فَقُلْ بِهِ
وَلاَ تَقُلِ الشَّيْءَ الَّذِي أَنْتَ جَاهِلُهْ
فَمَنْ كَانَ يَهْوَى أَنْ يُرَى مُتَصَدِّرًا وَيَكْرَهُ "لاَ أَدْرِي" أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهْ
وإذا كان هذا شأنَ الفتوى، وهذا محلها، فإن من تعظيم الفتوى أن تُحفظ مكانتُها وقداستها.
ومن حفظها أن لاَّ تتعدى أهل الاختصاص فيها؛ فليست الفتوى كلأً مباحًا، يقول فيها من شاء كيف شاء.
مردُّ الفتوى للعلماء، والعلماء فقط، العلماء المعروفين بطول باعهم في العلم، تحصيلاً وتبليغًا، والمشهور لهم بدقة الفهم، ومعرفة حال المستفتين، ومآلات الفتوى.
قال ابن سيرين: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم".
فمسائل الدين لا تؤخذ من المفكرين، ولا من المثقفين، فضلاً عن غيرهم من الأدباء والصحفيين، وإنما الإفتاء من العلماء ، وإذا أُخذت الفتوى من غير أهلها، شاع الباطل وأُلبس لباسَ الحق، ونُسب إلى الدين ما ليس منه، وحسبك به شرًّا وشؤمًا.
وأن من التعدي على حرمة الشريعة وأحكامها نشر فتاوى شاذة وأقوال ساقطة تثير البلبلة والفتنة وتفتن ضعاف العقول وتظهر الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق·
وإذا تكلم في العلم غيرُ أهله، ظهرت الفتاوى الشاذة، وحُلِّل الحرام، وتدافق الناس على ارتكاب الآثام، ونسيت وهُجرت أقوالُ أئمة الإسلام.
فيجب معاقبة الذين يفتون من غير تأهل للفتيا ؛ ولا يقتصر العقاب على أصحاب الفتاوى التحريضية الخاطئة بل يشمل بعض المتعالمين والإعلاميين والممثلين الذين يفتون بلا حياء ولا خشية .
يقولون هذا عندنا غير جائزِ !
فمن أنتموا حتى يكون لكم عند ؟
والواجب على المؤمن أن يحتاط لدينه، ويتقي ربَّه في اختيار ما تطمئنُّ له نفسه من فتاوى العلماء الراسخين، فالإثم ما حاك في الصدور، وإن أفتى به الناس وأفتوا، وليحذر المسلم كلَّ الحذر من تصيُّد الفتاوى الشاذة، وتلمُّس الأقوال المهجورة، فهذا مزلة وانحراف، واتباع للهوى، وإن لبَّسها صاحبُها لباس الدين؛ قال الذهبي:" من يتَّبع رُخصَ العلماء، وزلاتِ المجتهدين، فقد رقَّ دينه".
وإن انتشار الفتاوى الشاذة الخاطئة، والتقدم بين يدي العلماء إفتاءً وتوجيهًا، مؤشرٌ لا يبشر بخير، وفتنة لها ما بعدها من التلبيس والإضلال؛ قال -صلى الله عليه وسلم-:(لا تقوم الساعة حتى يُقبض العلم، ويَظهر الجهل، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج، وهو القتل ). رواه البخاري.
اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السموات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون: اهدنا لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، فإنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
كتبه: د/ سالم بن علي بن ارحمه الشويهي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق