لهذا يقول علماء الفلك: إذا رُئي الهلال في المشرق، لزم أن يرى في المغرب حتما في اليوم نفسه، ولا عكس بالضرورة. لأن الهلال لا يُرى إلا بُعيْد غروب الشمس، وغروب المغرب متأخر عن غروب المشرق بساعات، كما سلف، فإذا رئي الهلال في المشرق فإنه يكون عند غروب الشمس في المغرب مرئياً رؤية واضحة.
رؤيةُ الهلال.. إشكالٌ واختلال بقلم الباحث إبراهيم الصالحي الإلغي
تثير قضية رؤية الهلال وثبوتها، لاسيما أهلة الشهور الثلاثة ذات المواسم الدينية: رمضان (الصيام)، شوال (عيد الفطر) وذي الحجة (الوقوف بعرفة، وعيد الأضحى)، نقاشاً وجدلا واسعا وضجيجا كبيرا في الأوساط الدينية ، وغيرها، بالعالم الإسلامي عامة وفي غربه (المغرب) خاصة.
فما المقصود بـ “رؤية الهلال” ؟! وماذا عن الخلاف والإشكال والاختلال والاضطراب في ثبوتها وعدمه؟! ومن يسبق في الرؤية: المغاربة أم المشارقة؟! وما السبيل إلى إصلاح الخلل…؟!
هذه الأسئلة، وغيرها من التساؤلات الهلالية، تطرح نفسها – بقوة- عند كل محاولة لمعالجة أو تناول قضية “الهلال: ثبوت رؤيته وعدم ثبوتها”.
رؤية الهلال:
قال الله تعالى:” يسألونك عن الأهلة، قل هي مواقيت للناس والحج”. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مالك في الموطأ:” لاتصوموا حتى تروا الهلال، ولا تُفطروا حتى تروه، فإن غُم عليكم فاقدروا له”. وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: “صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين”.
ومن المعلوم أن الرؤية المعتبرة في تحديد بدء الصوم وانتهائه هي الرؤية البصرية الواقعة عشية، بعد اجتماع القمر بالشمس وخروجه من شعاعها، بقدر يوم وليلة فأكثر(=12درجة فأكثر)، وذلك بالكتاب والسنة والإجماع(1). “وإذا ادعى شهود رؤية الهلال قبل اجتماع القمر مع الشمس أو بعد اجتماعهما بأقل من يوم وليلة، فتُرد شهادتهم ولا تُقبل، لما عُلم من أن أوقات الاجتماعات هي من المسائل المقطوع بها، وأن القمر في آخر كل شهر يختفي تحت شعاع الشمس يومين على الأقل: يوماً قبل اجتماعه بالشمس ويوماً بعده، على أن من ادعى رؤية الهلال قبل اجتماع القمر بالشمس أو بعد اجتماعهما بأقل من يوم وليلة، فقد ادعى المحال، ومن ادعى المحال يجب تكذيبه وإلغاء شهادته”(2).
والفلكيون يؤكدون”أن اجتماع الشمس بالقمر يقع في آنٍ واحد من الزمان، وأن رؤية الهلال في جهة الغروب عشية، إنما تقع بعد الاجتماع والخروج من الشعاع [بقدر يوم وليلة فأكثر] ، وأن الغروب في البلاد الشرقية يتقدم على الغروب في البلاد الغربية، وأن حدود الرؤية وقت غروب البلاد الشرقية تكون أنقص من حدود الرؤية وقت غروب البلاد الغربية، وخصوصا مع التقارب في العرض، وأنه كلما كانت الحدود أكثر تكون رؤية الهلال أظهر”(3).
ثبوت رؤية الهلال.. خلافٌ وإشكال!
قديماً أَلَّفَ العلامة يعقوب بن إسحاق الكندي (ت.873م) رسالة حول موضوع:”رؤية الهلال لا تُضبط بالحقيقة”(4).فهذه الرسالة – للكندي- وما كُتب قبلها، وبعدها، من كتب ورسائل ومقالات، تُبيّن أن الاضطراب أو الخلل أو الخطأ في “إثبات رؤية الهلال” قديم جدا ، يتكرر ويتجدد، شهرا بعد آخر، طَوال القرون الماضية إلى الآن…!
ومن ذلك ما أورده أبو الريحان البيروني (ت.1048م) في كتابه “الآثار الباقية عن القرون الخالية” من ” أن الناس صاموا شهر رمضان على عهد أمير المؤمنين عليه السلام ثمانية وعشرين يوما، فأمرهم بقضاء يوم واحد، فقضوه…”(5).
كما أشار الرحالة ابن جُبَيْر إلى اضطراب وخلل وقعا في تحديد فاتح شهر رمضان من عام 579هـ بالحجاز (السعودية) (6).
وفي شهر رمضان من عام 700هـ/1301م صام الفاسيون يوم الأربعاء، في حين أن المراكشيين رصدوا الهلال ليلة الأربعاء المذكور، وكان الصحو، فلم يَرَوْهُ، فصاموا يوم الخميس مثل أهل تلمسان، خلافا للفاسيين(7).
وبعد ابن جبير وابن البناء، كتب السبكي – في المسألة نفسها- رسالته:”العلم المنشور” عام 748هـ، ثم كتب الشيخ بخيت رسالته عام 1329هـ، وكتب الشيخ طنطاوي جوهري رسالته عام 1332هـ، وشرح العلامة سيدي امحمد العلمي الفاسي رسالةَ ابن البناء السالفة الذكر، وحرر العلامة المختار السوسي سنة 1361هـ/1942م فتواه المعنونة بـ: “وشي المطارف في ثبوت الهلال بالخبر الرسمي من الهاتف”. وفي الموضوع ذاته صنف الأستاذ عبد الله الفاسي كتابه المسمى: “الإنصاف في ثبوت الهلال بالتلغراف”. كما ألف المؤرخ المكناسي ابن زيدان كتابا سماه: “تبيين وجوه الاختلال في مستند إعلان العدلية لثبوت رؤية الهلال” وذلك عام 1365هـ/1946م(8).
أما العلامة الكبير الإمام سيدي محمد بن عبد الرازق المراكشي (ت.2011)،رحمه الله، فقد صنف أكثر من كتاب وحرر أكثر من رسالة ومقالة في هذا الموضوع، مثل كتابيه: “العذب الزلال في مباحث رؤية الهلال” و “كشف النقاب عما وقع في هلاليْ شوال وذي القعدة عام 1369هـ/ 1950م”، ومقاله حول هلال رمضان لعام 1384هـ/1965م، ومقالاته الأربع حول أهلة رمضان وشوال وذي القعدة وذي الحجة عام 1385هـ/1966م، ومقاله حول ما وقع بالمغرب في هلال شوال 1387هـ، ومقاله:” في بيان ما يقع في ثبوت رؤية الهلال من عهد العبيديين إلى الآن: 1390هـ/1970م”. علاوة على ملتمسه:”حول ما يقع من تقدم ثبوت رؤية الهلال عند بعض الدول الشرقية على المملكة المغربية” الذي حرره بتاريخ: ذي الحجة 1398هـ/1978م، ووجهه إلى الملكين الراحلين : الحسن الثاني المغربي وفيصل السعودي(9)، ومقاله حول أهلة : رمضان/شوال/ذي الحجة 1403هـ/1983م.
وقد سار على نهجه (العلامة ابن عبد الرازق المراكشي) تلميذُه الشيخ سيدي محمد بن أحمد بلمكي البوكرفاوي السوسي(10).
وكمثال لذلك، نشير- بإيجاز- إلى ما حدث في الأهلة التالية:
1- هلال رمضان /شوال 1363هـ/1944م:
أثار الإعلان الرسمي عن هلالي رمضان وشوال لعام 1363هـ/1944م ضجيجا كبيرا في المغرب، وقد أصدرت وزارة العدل إعلانا ، في ذلك، نشرته جريدة “السعادة” في عددها 6276 الصادر بتاريخ: الأربعاء 06ذي الحجة 1363هـ/22 نونبر1944م (11).
والذي حدث هو تعييد الناس – غلطاً وخطأً – في اليوم المُكَمّل للثلاثين من رمضان، بعد ما صاموا اليوم المُكمّل للثلاثين من شعبان، بالخبر الرسمي من الرباط، ثم تبين أن الاعتماد في مفتتح رمضان كان على رؤية “ثبتت” في محكمة قاضي مدينة تيطاوين (تطوان)، وأن الاعتماد في التعييد كان على “رؤية” جاءت من محكمة أكادير ومحكمة تارودانت…ثم كان من المغاربة من احتفل مع الحكومة بالعيد، ومنهم من أبى ورفض التعييد!
ولما مضت الثلاثون ولم ير الهلال، ظهر – حينئذ- أن الرؤية لم تثبت قطعا! (12).
وهذا ما يشير إليه صاحب “العذب الزلال” بقوله:”…وقد ترقبناه معهم عشية التاسع والعشرين من رمضان عام 1363هـ، فلم يره منا أحد…وقد ترقبناه مع جماعة منهم عشية التاسع والعشرين وعشية الثلاثين من شوال، الترقيب التام من مراصده حيث يرتقب، مع الصحو التام، فلم يظهر له أثر قبل الغروب ولا بعده بكثير، وتيقنا – إذ ذاك- أننا أفطرنا آخر رمضان، لا محالة”(13).
2- هلال شوال/ذي القعدة 1369هـ/1950م:
كذلك، وقع اضطراب كبير، وقيل كلام كثير عن هذا الهلال ورؤيته، وفيه ألَّف العلاّمة ابن عبد الرازق المراكشي كتابه:”كشف النقاب” المذكور أعلاه، فليُراجع.
3- هلال ذي الحجة 1403هـ/1983م:
أُعلن في السعودية أن فاتح شهر ذي الحجة 1403هـ هو يوم الخميس ثامن شتنبر 1983م، والوقوف بعرفات يوم الجمعة 16 شتنبر، وعيد الأضحى يوم السبت 17 شتنبر، بَيْدَ أن هذا التحديد كان خطأً! والصواب أن فاتح ذي الحجة 1403هـ هو يوم الجمعة 09 شتنبر 1983م، والوقوف بعرفة في يوم السبت…قال الأستاذ ابن عبد الرازق في هذا الصدد:”…وعلى كل حال ،فأول ذي الحجة 1403هـ بالرؤية البصرية المحققة، وبحساب العلامة، هو يوم الجمعة 09شتنبر1983م، وذلك من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، وكل من تقدمه بيوم أو يومين، فقد بنى على غير رؤية محققة، وخالف ما هو الواجب كتابا وسنة وإجماعا”(14).
4- هلال رمضان/شوال 1404هـ/1984م:
نشرت جريدة “الشرق الأوسط” في عددها ليوم الأربعاء 27 شوال 1404هـ/25 يوليوز 1984م، بياناً لمجلس القضاء الأعلى السعودي حول التعييد (عيد الفطر) يوم الجمعة 28 يونيو 1984م، بعد صيام دام 28 يوما فقط!
الاضطراب جاء من النهاية الخاطئة لشعبان/البداية الخاطئة لرمضان، إذ جعلت السعودية يوم الخميس 31 ماي 1984 فاتحَ رمضان، علما أن كسوفا للشمس كان قد وقع يوم الأربعاء 30ماي!!!
والصواب أن البداية الصحيحة لرمضان 1404هـ هي يوم الجمعة فاتح يونيو أو يوم السبت 02 يونيو، وأول شعبان هو يوم الخميس ثالث ماي 1984م،وذلك من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب،ولا يصح أن يكون أوله يوم الأربعاء02 ماي الذي هو 30 رجب(15).
من يسبق في رؤية الهلال: المغرب أم المشرق؟!
نقرأ في كتاب” العذب الزلال”: “عدم إمكان تقدم المشارقة على المغاربة بيوم أو يومين باعتبار الرؤية البصرية”(16). ذلك أن غروب شمس المشرق يسبق غروب الشمس المغربية – كما نعلم- بنحو ثلاث ساعات. والهلال لا يُرى إلا إذا بعُد عن الشمس باثنتي عشرة درجة فأكثر، فإذا كان بينهما إحدى عشرة درجة فأقل، تكون الرؤية مستحيلة في المشرق وممكنة في المغرب، إذا زاد عند الغروب المغربي ولو درجة، ويُرى في اليوم الموالي لأهل المشرق كبيراً جدا، يظنون أنه لليلتين، وليس الأمر كذلك(17).
لهذا يقول علماء الفلك: إذا رُئي الهلال في المشرق، لزم أن يرى في المغرب حتما في اليوم نفسه، ولا عكس بالضرورة. لأن الهلال لا يُرى إلا بُعيْد غروب الشمس، وغروب المغرب متأخر عن غروب المشرق بساعات، كما سلف، فإذا رئي الهلال في المشرق فإنه يكون عند غروب الشمس في المغرب مرئياً رؤية واضحة.
بمعنى أنه يستحيل أن يُرى الهلال بالمشرق دون أن يُرى في المغرب، بل العكس هو الممكن: أن يُرى في المغرب ولا يُرى في المشرق إلا في غروب اليوم الموالي.
وفي هذا الصدد يقول الدكتور عبد الخالق الشدادي أستاذ علم الفلك:”الوضع الصحيح هو أحد أمرين:
1- أن يُرى الهلال في المشرق والمغرب معا مساء نفس اليوم.
2- أن لا يُرى في المشرق ،ولكن يُرى في المغرب مساء نفس اليوم، ثم يُرى في المشرق مساء اليوم الموالي. فالمفروض – حسب حقائق علم الفلك- أن يتوحد الإعلان عن الرؤية في المشرق والمغرب، أو أن يسبق المغربُ المشرقَ [بيوم واحد]“ (18).
هل يمكن توحيد المواسم الدينية؟!
أو بعبارة أخرى: هل يجب اعتبار “اختلاف المَطَالع”؟
إذا عرفنا أن الرؤية التي جعلها الله ميقاتا للناس والحج، تختلف باختلاف الآفاق، كأوقات الصلاة ووقتي الإمساك والإفطار في رمضان نفسه، نعلم أنه يجب اعتبار اختلاف المطالع (لكل بلد رؤيته). إذ لا يقول بأن رؤية بلد مَّا تعمُّ جميع أهل الأرض إلا من يعتقد أن هذه الأخيرة مسطحة، وأن الشمس إذا طلعت تطلع على الجميع، وإذا توسطت توسطت على مشارق الأرض ومغاربها، وإذا غربت غربت على الكوكب الأرضي كله! (19).
وبالتالي، فعدم اعتبار “اختلاف المطالع” مخالف للمعقول والمنقول، لأن الأوقات تختلف: النهار عند قوم قد يكون ليلا عند آخرين، كما أنه خروج عما حدد به الشرع بدء الصوم وانتهاءه(= الرؤية البصرية الواقعة بعد غروب الشمس). فلا يصح لأحد أن يُلزم قوما بالصوم أو الفطر استناداً على رؤية غيرهم، والحال أن الرؤية المعتبرة شرعا هي ممتنعة عندهم وقت غروبهم!! أليس ذلك كمن ألزم قوماً بالإمساك قبل فجرهم، أو بالإفطار قبل غروبهم، استناداً على فجر أو غروب غيرهم؟
وهل يُعقل أن يُكلَّف أناس بالصوم برؤية غيرهم للهلال، مع أن هذا الوقت – عندهم- ربما كان وقت طلوع الفجر أو وقت شروق الشمس؟!
ولا يخفى أن الاختلاف – باعتبار الرؤية الصادقة والحساب الصحيح – لا يمكن أن يقع في أكثر المعمور من الأرض إلا بيوم واحد، ولا يمكن أن يقع بأكثر من يوم أبداً(
رؤيةُ الهلال.. إشكالٌ واختلال بقلم الباحث إبراهيم الصالحي الإلغي
تثير قضية رؤية الهلال وثبوتها، لاسيما أهلة الشهور الثلاثة ذات المواسم الدينية: رمضان (الصيام)، شوال (عيد الفطر) وذي الحجة (الوقوف بعرفة، وعيد الأضحى)، نقاشاً وجدلا واسعا وضجيجا كبيرا في الأوساط الدينية ، وغيرها، بالعالم الإسلامي عامة وفي غربه (المغرب) خاصة.
فما المقصود بـ “رؤية الهلال” ؟! وماذا عن الخلاف والإشكال والاختلال والاضطراب في ثبوتها وعدمه؟! ومن يسبق في الرؤية: المغاربة أم المشارقة؟! وما السبيل إلى إصلاح الخلل…؟!
هذه الأسئلة، وغيرها من التساؤلات الهلالية، تطرح نفسها – بقوة- عند كل محاولة لمعالجة أو تناول قضية “الهلال: ثبوت رؤيته وعدم ثبوتها”.
رؤية الهلال:
قال الله تعالى:” يسألونك عن الأهلة، قل هي مواقيت للناس والحج”. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مالك في الموطأ:” لاتصوموا حتى تروا الهلال، ولا تُفطروا حتى تروه، فإن غُم عليكم فاقدروا له”. وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: “صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين”.
ومن المعلوم أن الرؤية المعتبرة في تحديد بدء الصوم وانتهائه هي الرؤية البصرية الواقعة عشية، بعد اجتماع القمر بالشمس وخروجه من شعاعها، بقدر يوم وليلة فأكثر(=12درجة فأكثر)، وذلك بالكتاب والسنة والإجماع(1). “وإذا ادعى شهود رؤية الهلال قبل اجتماع القمر مع الشمس أو بعد اجتماعهما بأقل من يوم وليلة، فتُرد شهادتهم ولا تُقبل، لما عُلم من أن أوقات الاجتماعات هي من المسائل المقطوع بها، وأن القمر في آخر كل شهر يختفي تحت شعاع الشمس يومين على الأقل: يوماً قبل اجتماعه بالشمس ويوماً بعده، على أن من ادعى رؤية الهلال قبل اجتماع القمر بالشمس أو بعد اجتماعهما بأقل من يوم وليلة، فقد ادعى المحال، ومن ادعى المحال يجب تكذيبه وإلغاء شهادته”(2).
والفلكيون يؤكدون”أن اجتماع الشمس بالقمر يقع في آنٍ واحد من الزمان، وأن رؤية الهلال في جهة الغروب عشية، إنما تقع بعد الاجتماع والخروج من الشعاع [بقدر يوم وليلة فأكثر] ، وأن الغروب في البلاد الشرقية يتقدم على الغروب في البلاد الغربية، وأن حدود الرؤية وقت غروب البلاد الشرقية تكون أنقص من حدود الرؤية وقت غروب البلاد الغربية، وخصوصا مع التقارب في العرض، وأنه كلما كانت الحدود أكثر تكون رؤية الهلال أظهر”(3).
ثبوت رؤية الهلال.. خلافٌ وإشكال!
قديماً أَلَّفَ العلامة يعقوب بن إسحاق الكندي (ت.873م) رسالة حول موضوع:”رؤية الهلال لا تُضبط بالحقيقة”(4).فهذه الرسالة – للكندي- وما كُتب قبلها، وبعدها، من كتب ورسائل ومقالات، تُبيّن أن الاضطراب أو الخلل أو الخطأ في “إثبات رؤية الهلال” قديم جدا ، يتكرر ويتجدد، شهرا بعد آخر، طَوال القرون الماضية إلى الآن…!
ومن ذلك ما أورده أبو الريحان البيروني (ت.1048م) في كتابه “الآثار الباقية عن القرون الخالية” من ” أن الناس صاموا شهر رمضان على عهد أمير المؤمنين عليه السلام ثمانية وعشرين يوما، فأمرهم بقضاء يوم واحد، فقضوه…”(5).
كما أشار الرحالة ابن جُبَيْر إلى اضطراب وخلل وقعا في تحديد فاتح شهر رمضان من عام 579هـ بالحجاز (السعودية) (6).
وفي شهر رمضان من عام 700هـ/1301م صام الفاسيون يوم الأربعاء، في حين أن المراكشيين رصدوا الهلال ليلة الأربعاء المذكور، وكان الصحو، فلم يَرَوْهُ، فصاموا يوم الخميس مثل أهل تلمسان، خلافا للفاسيين(7).
وبعد ابن جبير وابن البناء، كتب السبكي – في المسألة نفسها- رسالته:”العلم المنشور” عام 748هـ، ثم كتب الشيخ بخيت رسالته عام 1329هـ، وكتب الشيخ طنطاوي جوهري رسالته عام 1332هـ، وشرح العلامة سيدي امحمد العلمي الفاسي رسالةَ ابن البناء السالفة الذكر، وحرر العلامة المختار السوسي سنة 1361هـ/1942م فتواه المعنونة بـ: “وشي المطارف في ثبوت الهلال بالخبر الرسمي من الهاتف”. وفي الموضوع ذاته صنف الأستاذ عبد الله الفاسي كتابه المسمى: “الإنصاف في ثبوت الهلال بالتلغراف”. كما ألف المؤرخ المكناسي ابن زيدان كتابا سماه: “تبيين وجوه الاختلال في مستند إعلان العدلية لثبوت رؤية الهلال” وذلك عام 1365هـ/1946م(8).
أما العلامة الكبير الإمام سيدي محمد بن عبد الرازق المراكشي (ت.2011)،رحمه الله، فقد صنف أكثر من كتاب وحرر أكثر من رسالة ومقالة في هذا الموضوع، مثل كتابيه: “العذب الزلال في مباحث رؤية الهلال” و “كشف النقاب عما وقع في هلاليْ شوال وذي القعدة عام 1369هـ/ 1950م”، ومقاله حول هلال رمضان لعام 1384هـ/1965م، ومقالاته الأربع حول أهلة رمضان وشوال وذي القعدة وذي الحجة عام 1385هـ/1966م، ومقاله حول ما وقع بالمغرب في هلال شوال 1387هـ، ومقاله:” في بيان ما يقع في ثبوت رؤية الهلال من عهد العبيديين إلى الآن: 1390هـ/1970م”. علاوة على ملتمسه:”حول ما يقع من تقدم ثبوت رؤية الهلال عند بعض الدول الشرقية على المملكة المغربية” الذي حرره بتاريخ: ذي الحجة 1398هـ/1978م، ووجهه إلى الملكين الراحلين : الحسن الثاني المغربي وفيصل السعودي(9)، ومقاله حول أهلة : رمضان/شوال/ذي الحجة 1403هـ/1983م.
وقد سار على نهجه (العلامة ابن عبد الرازق المراكشي) تلميذُه الشيخ سيدي محمد بن أحمد بلمكي البوكرفاوي السوسي(10).
وكمثال لذلك، نشير- بإيجاز- إلى ما حدث في الأهلة التالية:
1- هلال رمضان /شوال 1363هـ/1944م:
أثار الإعلان الرسمي عن هلالي رمضان وشوال لعام 1363هـ/1944م ضجيجا كبيرا في المغرب، وقد أصدرت وزارة العدل إعلانا ، في ذلك، نشرته جريدة “السعادة” في عددها 6276 الصادر بتاريخ: الأربعاء 06ذي الحجة 1363هـ/22 نونبر1944م (11).
والذي حدث هو تعييد الناس – غلطاً وخطأً – في اليوم المُكَمّل للثلاثين من رمضان، بعد ما صاموا اليوم المُكمّل للثلاثين من شعبان، بالخبر الرسمي من الرباط، ثم تبين أن الاعتماد في مفتتح رمضان كان على رؤية “ثبتت” في محكمة قاضي مدينة تيطاوين (تطوان)، وأن الاعتماد في التعييد كان على “رؤية” جاءت من محكمة أكادير ومحكمة تارودانت…ثم كان من المغاربة من احتفل مع الحكومة بالعيد، ومنهم من أبى ورفض التعييد!
ولما مضت الثلاثون ولم ير الهلال، ظهر – حينئذ- أن الرؤية لم تثبت قطعا! (12).
وهذا ما يشير إليه صاحب “العذب الزلال” بقوله:”…وقد ترقبناه معهم عشية التاسع والعشرين من رمضان عام 1363هـ، فلم يره منا أحد…وقد ترقبناه مع جماعة منهم عشية التاسع والعشرين وعشية الثلاثين من شوال، الترقيب التام من مراصده حيث يرتقب، مع الصحو التام، فلم يظهر له أثر قبل الغروب ولا بعده بكثير، وتيقنا – إذ ذاك- أننا أفطرنا آخر رمضان، لا محالة”(13).
2- هلال شوال/ذي القعدة 1369هـ/1950م:
كذلك، وقع اضطراب كبير، وقيل كلام كثير عن هذا الهلال ورؤيته، وفيه ألَّف العلاّمة ابن عبد الرازق المراكشي كتابه:”كشف النقاب” المذكور أعلاه، فليُراجع.
3- هلال ذي الحجة 1403هـ/1983م:
أُعلن في السعودية أن فاتح شهر ذي الحجة 1403هـ هو يوم الخميس ثامن شتنبر 1983م، والوقوف بعرفات يوم الجمعة 16 شتنبر، وعيد الأضحى يوم السبت 17 شتنبر، بَيْدَ أن هذا التحديد كان خطأً! والصواب أن فاتح ذي الحجة 1403هـ هو يوم الجمعة 09 شتنبر 1983م، والوقوف بعرفة في يوم السبت…قال الأستاذ ابن عبد الرازق في هذا الصدد:”…وعلى كل حال ،فأول ذي الحجة 1403هـ بالرؤية البصرية المحققة، وبحساب العلامة، هو يوم الجمعة 09شتنبر1983م، وذلك من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، وكل من تقدمه بيوم أو يومين، فقد بنى على غير رؤية محققة، وخالف ما هو الواجب كتابا وسنة وإجماعا”(14).
4- هلال رمضان/شوال 1404هـ/1984م:
نشرت جريدة “الشرق الأوسط” في عددها ليوم الأربعاء 27 شوال 1404هـ/25 يوليوز 1984م، بياناً لمجلس القضاء الأعلى السعودي حول التعييد (عيد الفطر) يوم الجمعة 28 يونيو 1984م، بعد صيام دام 28 يوما فقط!
الاضطراب جاء من النهاية الخاطئة لشعبان/البداية الخاطئة لرمضان، إذ جعلت السعودية يوم الخميس 31 ماي 1984 فاتحَ رمضان، علما أن كسوفا للشمس كان قد وقع يوم الأربعاء 30ماي!!!
والصواب أن البداية الصحيحة لرمضان 1404هـ هي يوم الجمعة فاتح يونيو أو يوم السبت 02 يونيو، وأول شعبان هو يوم الخميس ثالث ماي 1984م،وذلك من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب،ولا يصح أن يكون أوله يوم الأربعاء02 ماي الذي هو 30 رجب
مع إعلان المحكمة العليا لتحرِّي رؤية هلال شهر شوال لهذا العام، مساء يوم غد الثلاثاء ليلة الأربعاء 29 – 30 رمضان 1434هـ، بدأت توقعات الكثير من المواطنين عن إمكانية رؤية الهلال مساء غد الثلاثاء، خاصة مع تضاؤل حجم الهلال خلال اليومين الماضيين، فيما كثرة التساؤلات عن كيفية صيام 28 يوماً فقط.
وبالعودة للتاريخ والفتاوى الشرعية، تبيِّن حدوث حالات مشابهة، آخرها حدث قبل حوالي 30 عاماً، عندما أعلن عن يوم العيد في وقت متأخر من ليلة 29 رمضان، وطلب من عموم المواطنين قضاء يوم.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في الجزء (25) من فتاواه ص 154- 155 أن هذا حدث في زمن علي رضي الله عنه صاموا ثمانية وعشرين يوماً، وأمرهم علي بصيام اليوم الذي نقصهم وإتمام الشهر تسعة وعشرين يوماً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق