الجمعة، 12 ديسمبر 2014

معيار تقييم الناس

هناك فرقاً في تقويم الأشخاص بين معايير الدنيا ومعايير الآخرةِ!
فرقٌ قد يبلغُ حدَّ التناقض! فيكون الرجلُ بمعيارِ الدنيا عظيماً شريفاً ولكنه بمعيارِ الآخرةِ حقيرٌ ذليلٌ!
تأمَّل قوله تعالى : ((وَنَادَى أَصْحَابُ الاٌّ عْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)) [الأعراف]
تحدثنا هذه الآياتِ عن نفرٍ من ذوي الجاه في الدنيا، كانوا يحتقرون ضعفة المؤمنين، ويستصغرون شأنهم، إلى درجة أنهم أقسموا أن الله عزّ وجل لا ينالهم برحمة! فضلاً عن أن يدخلهم الجنة!
قال أبو حيان: "كان الرؤساء يستهينون بهم ويحقّرونهم لفقرهم وقلة حظوظهم في الدنيا وكانوا يقسمون بأنّ الله تعالى لا يدخلهم الجنة" [البحر المحيط]
إنهم حمقى.. يظنون أن موازين الدنيا تجري على الناس يوم القيامة! وأنَّ أحكامهم على الناس في الدنيا تنفُذُ في الآخرة!
فلما حقّ الحقُّ انقلبَ كل شيء! فقيل لعظماء الدنيا: ((ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون))، وقيل لضعفاء الدنيا: ((ادخلوا الجنة لاخوف عليكم ولا أنتم تحزنون)).
وهذا المعنى العظيم.. متكررٌ في كتاب الله في غير ما موضعٍ، ففي سورةِ المطففين أخبرنا الله كيف تنقلبُ الأحوال والموازين يوم القيامة:
((إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)).
وفي سورة البقرة أخبرنا جلّ جلاله أن السخريةَ تنقلبُ على أهلها، حين تنقلبُ الموازين: ((زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)).
ويصوِّرُ لنا القرآنُ في سورة (ص) دهشةَ الملأ من أهل الدنيا حين يبحثون عمَّنْ صنّفوهم  في خانة الأشرار فلا يجدونهم معهم في النار! لقد وصموهم في الدنيا بالشرّ، وأدرجوهم في قوائم الإرهاب، وعدُّوهم في المجرمين، وأصدروا بحقهم عشرات الأحكام القضائية التي تُدينهم بالإجرام، ومع ذلك وجدوا أنفسهم في النار دونهم! فتعجبوا، ((وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ))!! ويتركهم الله بلا جواب، لأنهم في حقيقة أنفسهم يعرفون الجواب، ويكتفي القرآن بهذا الوصفِ العجيب: ((إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ))!
ثمتَ إذنْ معاييرُ أخروية ربانيةٌ يُقيَّمُ بموجِبها الناسُ، هي مباينةٌ تمامَ المباينةِ لما يتعلقُ به أهل الدنيا من معايير.
ولننظر معاً إلى هذين الموقفين التربويينِ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
أحدُهما فرديٌّ، والآخرُ جماعيٌّ.
أما الفرديُّ فقد رواه لنا أبو ذرٍ رضي الله عنه وأرضاه، حين قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انظُر أرفعَ رجلٍ في المسجدِ))، قالَ: فنظرتُ فإذا رجلٌ عليهِ حُلَّةٌ، فقلتُ: هذا. قالَ: فقالَ لي: ((انظر أوضعَ رجلٍ في المسجدِ))، قالَ: فنظرتُ، فإذا رجلٌ عليهِ أخلاقٌ، فقلتُ: هذا. فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ: ((لهذا عندَ اللَّهِ أخْيَرُ يومَ القيامةِ من ملءِ الأرضِ مِن هذا)). [مسند أحمد، صححه الوادعي]
وأما الموقفُ الجماعيُّ فقد قصّه علينا الصحابي الجليل سهلُ بن سعدٍ الساعديّ، فقال: مرَّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابِهِ: ((ما تقولون في هذا؟))، قالوا: حريٌّ إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع. قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: ((ما تقولون في هذا؟))، قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفّع، وإن قال أن لا يستمع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا خير من ملء الأرض مثل هذا)). [البخاري]
إذن !
نحنُ أمام حقيقةٍ قرآنية نبويةٍ واضحةٍ ثابتة..
هي أنَّ للدنيا معاييرَها في تقويم الناس، وللآخرةِ معاييرَها.
وقد أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ هذه المعايير الدنيوية الكاذبةَ تفعلُ فعلها في الناس، إلا من عصم الله، ((إنها ستأتي على الناس سنون خداعةٌ، يُصدّق فيها الكاذب، ويكذَّبُ فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائنُ، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضةُ))، قيل: وما الرويبضة؟ قال: ((السفيه يتكلم في أمر العامة))!
صدقتَ يارسول الله!
وكم رأينا من هذا !!
ينطقُ العالمُ الربانيُّ الصادقُ بالحقِّ فيكذَّبُ، ويُوصم بالإرهاب، وتصدرُ بحقِّه الأحكامُ والمذكراتُ، وينفلتُ عليه سفهاء الإعلامِ تجريحاً وشتماً وسباً.
وينطقُ المصلحيُّ الكذّابُ الأشرُ بالباطلِ فيصدَّقُ، ويوصفُ بالوطنيةِ والإخلاصِ والتضحية، وتأتيه شهادات الشكر، وإشادات التقدير، ويكيلُ له (أراجوزاتُ) الإعلام المديح والثناء حتى يكادوا أن يجعلوه نبياً رسولاً، أو رباً معبودا!!
ويتحركُ الأمينُ يحدوه الحرصُ على دين اللهِ، والشفقةُ على عبادِهِ أن تغتالهم شبههة، أو تفتنهم شهوة، أو يستبدّ بهم ظالمٌ، فإذا به يُخَوَّنُ وتُسندُ إليه البوائق!
ثم يتجمَّلُ الخائنُ بألفاظٍ مغسولةٍ، ومعانٍ مستهلكةٍ مكرروةٍ، فيُؤتَمَنُ على مالٍ قد سرقه! وأعراضٍ قد انتهكها! وبلادٍ قد أفسدها! ويُقال له: على الرحب والسعة!
ورحم الله الشاعر الرقيق مصطفى حمام حيثُ قال وصدق:
أكثر الناسِ يحكمون على الناسِ... وهيهات أن يكونوا عدولا
فلكم لقبوا البخيل كريما... ولكم لقبوا الكريم بخيلا
ربَّ عذراء حرةٍ وصموها... وبغيٍّ قد صوروها بتولا
وقطيعِ اليدين ظلماً ولصّ... أشبع الناسُ كفه تقبيلا
ونشيدُ السلام يتلوه سفاحون سنّوا الخراب والتقتيلا
وحقوق الإنسان لوحةُ رسامٍ أجاد التزوير والتضليلا!!
وقد جعل الله عزّوجل لنا عواصمَ تقينا من القواصم، ووسائل تحول بيننا وبين أن تخدَعَنا هذه المعاييرُ الكاذبةُ فتقبّح عندنا الحسن، وتحسّن القبيح.
العاصمُ الأول: القصصُ القرآنيةُ
فالقرآن الكريم لم يكتفِ بتقريرِ الحقائق في هذه المسألة، بل ضربَ لنا أمثلةً، وقصَّ قصصاً، ليستقرّ في وجدانِ المؤمنِ أن العظيم حقاً هو من عظَّمَ شأن الله فعظَّمَ اللهُ شأنه. وأن الذليل حقاً هو من عدل عن أمرِ الله وشرعِهِ فأذله الله، حتى لو مرتْ مرحلةٌ من الزمنِ تشوشتْ فيها الصورةُ، وغطاها ضبابُ الكذبِ والزيفِ والنفاقِ.
تأملْ قصةَ موسى وفرعون!
في وقتٍ من الأوقاتِ صوَّرَ الدجاجلةُ موسى عليه السلام على أنّه مفسدٌ! ((وقال الملأ من قوم فرعون أتذرُ موسى وقومه ليفسدوا في الأرض))!! وساحرٌ ((أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ياموسى))، ((إنْ هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من الأرضكم بسحرهما))!! ومسحورٌ أيضاً ((وإني لأظنك ياموسى سحورا))!! وطالبٌ للملكِ والحكم ((أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياءُ في الأرض))!! وصارفٌ للناسِ عن الصراطِ الأقوم ((ويذهبا بطريقتكم المثلى))!! وناكرٌ للجميل ((أولم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين))!! ومجنون ((إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون))!! وكذابٌ ((فقالوا ساحرٌ كذابٌ))
وفي مقابل هذا كان فرعونُ في أعينِ هؤلاءِ الملكَ الجليل ((أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون))!! بل الإله العظيم ((أنا ربكم الأعلى))!! بل الإله الوحيد ((ماعلمتُ لكم من إله غيري))!! صاحبُ العذابِ الأشدِّ والعقوبة الأبقى ((ولتعلمنّ أينا أشدّ عذاباً وأبقى)).
كانت هذه هي الصورةُ الرائجةُ المتداولة!
موسى عليه السلام –وحاشاه- هو الساحر المسحور الكاذبُ المفسدُ المضلُّ الخائنُ الناكرُ للجميل!
وفرعون – لعنه الله – هو الملك العظيم المهيبُ الحريصُ على مصلحةِ الناسِ المجتهدُ في دفعِ دعاةِ السوء والضلالِ عنهم!
لكن!
هل بقيتْ هذه الصورة المخادعةُ؟ هل استمرّ هذا الكذبُ؟
لقد قضى الله سبحانه على كل هذا التدجيل بخشبة!!
نعم.. خشبةٌ انقلبتْ حيةً يوم التحدي فأفاقَ من فيه خيرٌ، ثم ضربتِ الصخرَ من بعدُ ليبتلعَ البحرُ من أصرّ على كفرِهِ وعنادِهِ. والنتيجةُ ((ودمرنا ما كان يصنعُ فرعون وقومه وما كانوا يعرشون))!! ذلَّ من زعمه الملأ عزيزاً ، وفي المقابل عزَّ من زعمه الملأ ذليلاً: ((وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها)).
هذه القصةُ العظيمةُ واعظٌ مهم للمؤمنِ، تذكرُهُ بأنّ حقائقَ الأشياءِ لايمحوها الزيف، ولا يغيرها الكذبُ، ولا يبدّلها الإعلامُ، وإن ألقى ذلك كلُّهُ ظلالاً كثيفةً في وقتٍ من الأوقاتِ.. ولكنّ الوعد الأبدي قائمٌ: ((وقل جاء الحقُّ وزهقَ الباطلُ إن الباطلَ كان زهوقاً)).
وفي القرآن من أمثال قصة فرعون الكثير.. حكايات الأنبياء كلها.. قصة قارون.. قصة أصحاب الكهف.. حكاية الوليد بن المغيرة.. كل هذه شواهدُ تعصمُ الإنسانَ من الانسياقِ وراء الدجل الذي يريد أن ينزل الناس غير منازلها.
ذلك هو العاصمُ الأول: قصص القرآنِ.
أما العاصمُ الثاني: فهو الأمرُ التثبت.
((يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)).
((يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في الأرض فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لستَ مؤمناً))
((وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم))
وفي الحديث ((بئس مطية الرجل زعموا)).
هكذا يؤمرُ المؤمن بألا يصيخ سمعه إلى كل ناعقٍ، بل يتحقق ويتثبتُ، ويضع الأشياء في مواضعها، وعندها سيعرفُ لكلٍّ قدره، ويستقيم له معيارُ التقويم.
والعاصمُ الثالثُ: النصُّ الصريحُ على بعضِ معاييرِ التفضيل الربانية، والتأكيدُ على أنّ التعويل عليها.
فخبرتنا النصوصُ أن معيار التقويم الأول هو تقوى الله عزوجل:
-       ((إن أكرمكم عند الله أتقاكم))
-   ((إن الله لاينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم)). ((التقوى هاهنا)) وأشار إلى صدرِهِ صلى الله عليه وسلم.
وخبرتنا النصوص أن من معايير الرفعة الحقيقية الصلةُ بكتابِ الله :
-       ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)).
-   وكان نافعٌ عاملًا لِعُمَرَ على مكَّةَ، فقدم إلى عمر بالمدينة، فقال له عُمَرُ: مَنِ استخلَفْتَ على أهلِ الوادي يعني أهلَ مكَّةَ ؟ قال : ابنَ أَبْزَى قال: ومنِ ابنُ أَبْزَى؟ قال : رجُلٌ مِن الموالي قال عُمَرُ: استخلَفْتَ عليهم مَولًى؟! فقال له : إنَّه قارئٌ لكتابِ اللهِ فقال : أمَا إنَّ نبيَّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللهَ لَيرفَعُ بهذا القُرآنِ أقوامًا ويضَعُ به آخَرينَ)).
وخبرتنا النصوص أن من معايير الرفعة الحقيقية طلبُ العلم بإخلاصٍ والعملُ به:
-       ((يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات))
-       ((فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم))
وعلى ذلك قس.
إنّ هذا النمطَ من النصوص ليس مقصوده فقط أن يبيّن لك فضيلة هذه الأعمال، بل له معنى تربوي عميقٌ هو أن يعلمك كيف تقوّم النفس وفق معيار الآخرة لا معيارِ الدنيا، وبمقاييس رب العباد لا بمقاييس العبادِ.
إذنْ هذه العواصمُ الثلاثة: قصصُ القرآنِ، والأمر بالتثبتِ، والنصُّ على ما يرفعُ قدرَ الإنسان حقيقةً.. هذه العواصمُ الثلاثةُ ينبغي أن تكون أسلحتنا في هذا الواقع المرّ الذي تُخلطُ فيه الأوراقُ عمداً، لكي يخوَّنَ الأمينُ، ويؤتمنَ الخائنُ، ويصدّق الكاذبُ ويكذبَ الصادقُ كما أخبر نبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم.
= الخطبة الثانية :
-       الحمدلة.
فقد قال أبو العلاءِ المعري لما رأى انقلاب الموازينِ في زمانِهِ:
إذا عير الطائيَّ بالبخل مادرٌ ...
(والطائيُّ إمام الكرماءِ، ومادرٌ رأس البخلاء)
وعيَّر قساً بالفهاهةِ باقلُ
(وقسٌّ سيدُ الفصحاءِ، وباقلُ آيةُ العيِّ والحصرِ)
إذا عيَّر الطائيَّ بالبخلِ مادرٌ ... وعيّر قساً بالفهاهةِ باقلُ
وقال السُّهى للشمس أنْتِ خَفِيّةٌ ... وقال الدّجى يا صُبْحُ لونُكَ حائل
وطاوَلَتِ الأرضُ السّماءَ سَفاهَةً ... وفاخَرَتِ الشُّهْبُ الحَصَى والجَنادل
فيا موْتُ زُرْ إنّ الحياةَ ذَميمَةٌ ... ويا نَفْسُ جِدّي إنّ دهرَكِ هازِل
هكذا تمنى الموت من شدى ما رأى!
ولكننا – وقد رأينا أشدّ مما رأى – لانتمنى ما تمنّى؛ لأنّنا روِّينا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قول نبينا صلى الله عليه وسلم : ((إنّ لله تسعةً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)). وجاءَ في رواية الترمذي التي فيها سردُ الأسماء ذكرُ اسمي: (الخافضِ الرافع).
وهذان الاسمان العظيمانِ من أسماء الله الحسنى يعززانِ في نفسِ المؤمنِ اليقينَ برفعةِ شأنِ المتقين وإن أوذوا، وهوان شأنِ المستكبرين وإن طغوا.
فالذي يرفعُ ذكر من شاءَ ويُعليه ويجعلُ له شأناً حقيقياً هو الله، والذي يخفضُ من شاء ويهينُهُ ويذلُهُ هو الله ((يعزُّ من يشاء، ويذلُّ من يشاء)).
قال الإمام الخطابيّ رحمه الله: "فالخافض : هو الذي يخفض الجبارين ويذل الفراعنة المتكبرين , والرافع : هو الذي رفع أولياءه بالطاعة فيعلي مراتبهم وينصرهم على أعدائه ويجعل العاقبة لهم , لا يعلو إلا من رفعه الله, ولا يتضع إلا من وضعه وخفضه" [شأن الدعاء]
وقال السعديُّ: "الرافع لأقوام قائمين بالعلم والإيمان , الخافض لأعدائه".
والإيمان بحقيقة هذين الاسمين يخفف في نفس المؤمن من طغيانِ الواقعِ، الذي باتَ فيه الذنبُ رأساً، والرأسُ ذنباً !
والخلاصةُ أيها العبدُ المؤمن ...
لا يغرنَّك ما ترى من ارتفاع الناس وانخفاضهم في الدنيا ..
فإنَّ المعيارَ الحقيقيّ هو ماتراه يوم القيامة .. حين يُصارُ بذوي الرفعةِ الحقيقية إلى الجنة، ويؤخذُ المخفوضون حقاً إلى النار ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق