السبت، 8 نوفمبر 2014

الشاعر عروة بن أذينة والرزق

لجأَتْه ودفعَتْه الحاجة إلى الخروج من بيته وبلده، قاصِدًا الخليفة على عهد هشام بن عبدالملك، فهو شاعرٌ يُجِيد نظمَ الشِّعر، وقد كان التكسُّب بالشعر أمرًا شائعًا، وهو الفقيه المحدِّث، والشاعر المتكلِّم، عُرِف بالفقه، يُكنى أبا عامر، وهو شاعر غزل مقدَّم من شعراء أهل المدينة، وهو معدودٌ في الفُقَهاء والمحدِّثين، روى عنه مالك بن أنس وعبيدالله بن عمر العدوي.

هيَّأ قصيدة وضرَب أكباد الإبل أيَّامًا مع صُحْبَةٍ له في السفر يُرِيد هشامًا؛ علَّه يُصِيب مَغنَمًا يَدفَع عنه وعن أسرَتِه سيفَ الحاجة وإمارات القلَّة، وصَل إلى القصْر ووقَف مع مَن وقَف من جملة الشُّعَراء، حتى أذِنَ لهم بالدُّخول، ونسبهم هشام فعرفهم، وهناك كانت القصَّة كما ذُكِرَتْ في غير كتابٍ من كتب الأدب، مَن الشاعر وما نسبه؟ وما هو الشعر الذي قاله؟ وما قصته؟

الشاعر هو عروة بن أُذَيْنَةَ.

وإليك روايات في قصته مع الخليفة:
"الفرج بعد الشدة"؛ للتنوخي (ج 1 / ص 198): (عروة بن أُذَيْنَةَ يفد على هشام بن عبد الملك):
عن يحيى بن عروة بن أُذَيْنَةَ، قال: أضاقَ أبي إضاقةٌ شديدة، وتعذَّرت عليه الأمور، فعمل شعرًا امتدح به هشام بن عبد الملك، ودخَل عليه في جملة الشعراء، فلمَّا دخلوا عليه نسبهم، فعرفهم جميعًا وقال لأبي: أنشدني قولك: لقد علمت... فأنشده:
لَقَدْ عَلِمْتُ وَمَا الإِشْرَافُ مِنْ خُلُقِي
أَنَّ الَّذِي هُوَ رِزْقِي سَوْفَ يَأْتِينِي
أَسْعَى لَهُ فَيُعَنِّينِي تَطَلُّبُهُ
وَلَوْ جَلَسْتُ أَتَانِي لاَ يُعَنِّينِي
وَأَيُّ حَظِّ امْرِئٍ لاَ بُدَّ يَبْلُغُهُ
يَوْمًا وَلاَ بُدَّ أَن ْيَحْتَازَهُ دُونِي
لاَ خَيْرَ فِي طَمَعٍ يَهْدِي إِلَى طَبَعٍ
وَعُلْقَةٌ مِنْ قَلِيلِ العَيْشِ تَكْفِينِي
لاَ أَرْكَبُ الأَمْرَ تُزْرِي بِي عَوَاقِبُهُ
وَلاَ يُعَابُ بِهِ عِرْضِي وَلاَ دِينِي
أَقُومُ بِالأَمْرِ إِمَّا كَانَ مِنْ أَرَبِي
وَأُكْثِرُ الصَّمْتَ فِيمَا لَيْسَ يَعْنِينِي
كَمْ مِنْ فَقِيرٍ غَنِيِّ النَّفْسِ تَعْرِفُهُ
وَمِنْ غَنِيٍّ فَقِيرِ النَّفْسِ مِسْكِينِ
وَكَمْ عَدُوٍّ رَمَانِي لَوْ قَصَدْتُ لَهُ
لَمْ يَأْخُذِ الْبَعْضَ مِنِّي حِينَ يَرْمِينِي
وَكَمْ أَخٍ لِي طَوَى كَشْحًا فَقُلْتُ لَهُ
إِنَّ انْطِوَاءَكَ عَنِّي سَوْفَ يَطْوِينِي
لاَ أَبْتَغِي وَصْلَ مَنْ يَبْغِي مُفَارَقَتِي
وَلاَ أَلِينُ لِمَنْ لاَ يَبْتَغِي لِينِي

فقال هشام: ألا جلست في بيتك حتى يأتيك رزقك؟
قال: وغفل عنه هشام، فخرج من وقته، وركب راحلته، ومضى منصرفًا.

فافتَقَده هشام، فسأل عنه، فعرف خبره، فأتبعه بجائزة.

فمضى الرسول، فلحقه على ثلاثة فراسخ، وقد نزل على ماء يتغدَّى عليه، فقال له: يقول لك أمير المؤمنين: أردت أنْ تكذبنا، وتصدِّق نفسك؟ هذه جائزتك.

فقال: قل له: قد صدقني الله، وأتاني برزقي بحمده.

وأمَّا الشعر الذي قاله مادحا الخليفة، مع رواية أخرى للحادثة جاء في "التذكرة الحمدونية" (ج 1 / ص 320):
خرج عروة بن أُذَيْنَةَ إلى هشام بن عبدالملك في قومٍ من أهل المدينة وفَدُوا عليه، وكان ابنه مَسلَمة بن هشام سنة حجَّ أَذِنَ لهم في الوفود عليه، فلمَّا دخَلُوا على هشامٍ انتسَبُوا له، فقال له: ما جاء بك يا ابن أُذَيْنَةَ؟ فقال:
أَتَيْنَا نَمُتُّ بِأَرْحَامِنَا
وَجِئْنَا بِإِذْنِ أَبِي شَاكِرِ
بِإِذْنِ الَّذِي سَارَ مَعْرُوفُهُ
بِنَجْدٍ وَغَارَ مَعَ الغَائِرِ
إِلَى خَيْرِ خِنْدِفَ في مُلْكِهَا
لِبَادٍ مِنَ النَّاسِ أَوْ حَاضِرِ

فقال له هشام: ما أراك إلا قد أكذبت نفسك حيث تقول:
لَقَدْ عَلِمْتُ وَمَا الإِشْرَافُ مِنْ خُلُقِي
أَنَّ الَّذِي هُوَ رِزْقِي سَوْفَ يَأْتِينِي

فقال له ابن أُذَيْنَةَ: ما أكذبت نفسي يا أمير المؤمنين، ولكنِّي صدقتها وهذا من ذاك، ثم خرَج من عنده ورَكِبَ راحلته راجِعًا إلى المدينة، فلمَّا أمَر لهم هشامٌ بِجَوائِزهم تفقَّدهم فقال: أين ابن أُذَيْنَةَ؟ فقالوا: غضب من تقريعك له فانصرف راجعًا إلى المدينة، فبعث إليه بجائزته وقال للرسول: قل له: قد أردت أنْ تكذبنا وتصدق نفسك، فمضى الرسول فلحقه على ماءٍ يتغدَّى عليه، فأبلَغَه رسالته ودفَع إليه الجائزة فقال: قل له: قد صدقني الله وكذبك.

ومن جيِّد شعره كما ورد في كتب الأدب: "زهر الآداب وثمر الألباب" (ج 1 / ص 68):
وكان عروة بن أُذَيْنَةَ - على زُهده، ووَرَعه، وكثرةِ علمه وفَهمِه - رقيقَ الغزل كثيره، وهو القائل:
إِذَا وَجَدْتُ أُوَارَ الْحُبِّ فِي كَبِدِي
أَقْبَلْتُ نَحْوَ سِقَاءِ القَوْمِ أَبْتَرِدُ
هَبْنِي بَرَدْتُ بِبَرْدِ الْمَاءِ ظَاهِرَهُ
فَمَنْ لِنَارٍ عَلَى الأَحْشَاءِ تَتَّقِدُ

وقد رُوِي هذان البيتان لغيره.

ويقول أيضًا:
قَالَتْ وَأَبْثَثْتُهَا سِرِّي فَبُحْتُ بِهِ
قَدْ كُنْتَ عِنْدِي تُحِبُّ السِّتْرَ فَاسْتَتِرِ
أَلَسْتَ تُبْصِرُ مَنْ حَوْلِي؟ فَقُلْتُ لَهَا
غَطِّي هَوَاكِ وَمَا أَلْقَى عَلَى بَصَرِي

وقال يرثي أخاه: (كما جاء في "جمع الجواهر في الملح والنوادر" (ج 1 / ص 119):
سَرَى هَمِّي وَهَمُّ الْمَرْءِ يَسْرِي
وَغَابَ النَّجْمُ إِلاَّ قَيْسَ فِتْرِ
أُرَاقِبُ فِي الْمَجَرَّةِ كُلَّ نَجْمٍ
تَعَرَّضَ أَوْ عَلَى البَحَرَاتِ يَجْرِي
بِهَمٍّ مَا أَزَالُ بِهِ قَرِينًا
كَأَنَّ القَلْبَ أَبْطَنَ حَرَّ جَمْرِ
عَلَى بَكْرٍ أَخِي فَارَقْتُ بَكْرًا
وَأَيُّ العَيْشِ يَحْسُنُ بَعْدَ بَكْرِ

فقال: أَعِدْ يا صاحِ، فأعدتُ، فقال: مَن يقوله؟ قلت: عُروة بن أُذَينة الليثي.

وبعد، فلو كان اعتَذَر من الخليفة لعذره، ولَقُلنا: إنَّ الحاجة دفعَتْه لذلك ولعذرناه، لكنَّها مواقف الرجال، ترَك الخليفة وقصْر الخليفة وآثَر الرُّجوع ليكون له مَوقِف معلم كآثار مصر، يَزُورُه مَن يَرغَب في مثْل هذه المواقف التي تنمُّ عن شخصٍ كريمٍ جَوادٍ يعتزُّ بنفسه وكرامته، فكانت زيارته امتِحانًا ونجح وبامتِيازٍ في ذلك الاختِبار، وللأمانة فشعرُه كلُّه بالمجمل جيِّد وجميل، فليَقرأه مَن يريد، وما كتبتُ عنه إلا لِأَحُضَّ على قِراءة شعره وشعر غيره من موفور وموروث شعريٍّ قلَّما يوجد في غير أمَّتنا.

‏ان التي زعمت فؤادك ملها..خلقت هواك كما خلقت هوى لها..فيك الذي زعمت بها وكلاكما..يبدي لصاحبه الضبابة كلها!#غزل عروة بن اذينة
‏لقد علمت وما الاشراف من خلقي *
أن الذي هو رزقي سوف يأتيني

أسعى  إليه  فيعييني  تطلبه  *
ولو جلست  أتاني  لا يعنيني

عروة بن اذينة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق